مع شيخي عبد الرحمن السدحان رحمه الله
انتقل بنا الوالد رعاه الله وأنا صبي إلى منزلنا الجديد بحي الرحمانية عام 1410هـ، وحلت بنا أول جمعة، فخرجت ضحىً إلى جامعها الوحيد جامع الرحمانية المعروف حينذاك بجامع ابن قاسم، وما إن دلفت الجامع إلا وقد اكتمل الصف الأول. جعلت أتأمل ذلك الصف، فلفت نظري من بينهم شيخ مميز يلبس مشلحاً والقوم في ثيابهم، ورأيتهم في مصاحفهم الخضراء، ولكن الشيخ ممسك بيديه كتاباً ذا لون أزرق بهيج. حثثت الخطى إلى الصف الثاني وصليت قريباً منه لأعرف خبره وخبر كتابه. سلمت من صلاتي وجعلت أرقب الشيخ فإذا هو يقرأ كتاباً فيه آيات وفيه كلام فعرفت أنه في تفسير القرآن، كان لا يكاد يتحرك منه جزء من جسده سوى أطراف أصابعه في تقليب الصفحات، يتأمل طويلاً بهدوء أخّاذ وسكينة عجيبة، فأدركت أن لهذا الشيخ شأناً غير شأن القوم.
وبعد انقضاء الصلاة غادر الشيخ محله من مدخل الإمام القِبلي وأسرعت الخروج لأدركه، وتبعته حتى عرفت أنه يسكن في قبلة الجامع جاراً لقصر الأمير فأودعت موقع داره في ذاكرتي الصغيرة، سألت عنه من تعرّفتُ عليه من صبيان الحي فأخبروني بأنه شيخ يقال له “عبد الرحمن السدحان”.
صليت في الجامع مرةً صلاة فريضة فرأيته في محله من الصف الأول فعرفت أنه من جماعة هذا الجامع في صلوات الجمعة والجماعة، وعزمت أن أبكر مرة إلى الجمعة فرأيته أول حاضر إلى الجامع لم يسبقه أحد، وفي المكان ذاته ومع الكتاب ذاته. واستمرت هذه المراقبة أشهراً تتلوها الأشهر، وجعلت هيبة الشيخ بلحيته البيضاء وقامته الطويلة ومشلحه الفاخر تحول دون اقترابي منه والسلام عليه. غير أني استطعت معرفة كتابه الأزرق: تفسير الشيخ أبي بكر الجزائري رحمه الله.
مضت سراعاً سنوات ثلاث وأنا على هذه الحال أرقب الشيخ، إلى أن عرفت العلم الشرعي وابتدأت في طلبه أوائل المرحلة الثانوية، وأدركت أهمية التأصيل العلمي والعناية بالأصول والقواعد، فأخبرني أحد الأصحاب أن في حيّنا شيخاً متخصصاً في الأصول، فاستخبرته فأخبرني بأنه شيخٌ جليلٌ يقال له الدكتور عبدالرحمن السدحان!
لم أنم ذلك اليوم جيداً وجعلت أجول في سرح خيالي: كيف أسلم على الشيخ؟ وكيف أخاطبه؟ وكيف أمشي معه؟ وكيف أفاتحه بالقراءة عليه؟ وكيف وكيف .. أسئلةٌ حار معها ذهني تقابلها تلك الهيبة المحيطة بهذا الشيخ. وقررت أن أستعين بالله وأصلي معه يوماً صلاة المغرب وانتظرته عند باب المسجد مستحضراً كلماتي المرتبة، فما إن اقترب ورمقني بنظرته المهيبة من فوق نظارته إلا وتبعثرت الكلمات، تجاسرت وسلمت عليه وقبلت رأسه وقلت له مرتجلاً وقد ذهب كل كلام رتبته: (أنا أطلب العلم وأرغب يا شيخ أن أقرأ عليك في أصول الفقه). أدرك الشيخ حداثة سني وضعف حيلتي عن هذا العلم وقال بتواضعه: (ما عندي شي، ولكن في حي كذا شيخ يقال له فلان له درسٌ في أصول الفقه فلعلك تحضر عنده وتستفيد منه) أدركت أن الشيخ من كبار العلماء الذين تعقد دروسهم لكبار طلبة العلم، وأن لا وقت لديه لصغار المبتدئين وخاصة لمن جاء وحده يريد قراءةً فردية عليه.
أنهيت مرحلتي الثانوية، والتحقت شغفاً بكلية الشريعة، قبلة طلاب العلم الشرعي، وفوجئت بجارنا الشيخ د. عبدالرحمن السدحان عميداً لهذا الصرح العريق، ولم أجرؤ على مجرد الاقتراب من مكتبه للسلام عليه، فهيبة الشيخ تسري في عروقي حتى في مرحلتي الجامعية.
صليتُ مرةً صلاة الظهر في جامع الجامعة الكبير وأنا طويلب في سنتي الجامعية الأولى، وقد كان أيام انتظام المحاضرات الخمس اليومية يمتلئ عن بكرة أبيه إلا قليلا، ولا تدرك الصف الأول إلا أن تستأذن قبيل المحاضرة الرابعة، فأتممتُ صفاً أثناء إقامة الصلاة ثم تراجعت إلى الصف الذي خلفه لما رأيت أنه بين ساريتين متأولاً حديث النهي، فلم أنته إلى صفي المؤخر إلا وشيخ عن يميني بينه وبينه رجلان يلحظني بنظره فلم أجرؤ على الالتفات، وعرفت لاحقاً أنه الشيخ عبدالرحمن، فتعلمت الدرس!
مضت سنواتٌ أربع عركت فيها علم الأصول عركاً، ورشحتني الكلية معيداً في قسمها الأصولي، وأدركت أني أقترب من الشيخ أكثر فأكثر، فأصبحت أرى الشيخ تباعاً وأنا أمين لمجلس القسم ورأيت إجلال المشايخ له، وعرفت شقيقه الأمثل الأستاذ الدكتور فهد الذي رباه شيخنا أحسن تربية وغذاه بعلمه وخلقه فأحسن أيما إحسان ـ أحسن الله إليهما ـ وتوثقت الصلة مع مرور الأيام، إلى أن أنهيت دراسة مرحلة الدكتوراه وسجلت الأطروحة في القسم وفوجئت بشيخنا الدكتور عبدالرحمن مشرفاً. سبحان الله! كيف أن هذا الشيخ الذي هبت الاقتراب منه زماناً من الدهر أكون اليوم من أقرب الناس إليه، جلست مع شيخنا في مكتبه لترتيب الطريقة التي يرغب بها في تسليم ملازم البحث، ولما كان موضوع بحثي في إجماعات الأصوليين كان يقتضي ذلك استقراءً مطولاً لكتب القوم، وأخذ ذلك مني حولين كاملين، ولم أقدم لشيخنا ورقة واحدة من البحث، أضمر الشيخ في نفسه (شرهة) عليّ ظهرت في ثنايا حديثه ولم أر والله منه توبيخاً ولا تعنيفاً، بل إنه لم يكتب في تقريره الفصلي للقسم تأخر الباحث، وإنما حثني بلغته الأبوية الحانية على إسراع الخطى للإنجاز، فابتدأت الكتابة وجمعت الهمة وهيأت الملزمة الأولى وكانت في مائة صفحة تقريباً وكنت أقدر للرسالة أن تخرج في أكثر من ألفي صفحة فرأيت أن الملزمة مناسبة في حجمها لتقديمها إليه، أمسك بها وقال لي بحكمته وهدوئه: (لا تكبر اللقمة عليّ فأغص) أدركت أن الأنسب تقديم دفعة أقل عدداً فالشيخ يشرف علي وعلى غيري مع مزاحمة المحاضرات لديه، واستمر الأمر كذلك على خير ما يرام، وكنت ألحظ في ملحوظاته التي يكتبها شيئاً مميزاً، فهو لا ينبه على أخطاء لغوية أو طباعية أو هنات يسيرة، وإنما يقع تنبيهه الحكيم موازنةً بين ما إبرازه خير من عدمه أو عكس ذلك، في كلمات قليلة يُفهم منها ما وراءها.
عُين شيخنا عضواً في هيئة كبار العلماء، ولم أر منه رحمه الله إلا المتابعة لما أرسل إليه من ملازم، ومن عجيب أمره معي، أني التقيت به بعد حج عام 1428 فقال لي: لك أمٌّ تدعو لك! قلت له: وما الشأن شيخنا الكريم؟ قال: لم يسبق لي أن أخذت معي ملزمة طالب في الحج إلا ملزمتك حتى أنهيتها في رحاب منى، فأقبلت إليه مقبلاً رأسه وقلت: جزاك الله عني خير ما جزى شيخاً عن طالبه. استمرت الصلة قوية مع شيخنا، وازدادت قوة بعد أن تعرف إلى والدي، وأصبح يسألني عنه كلما التقيت به ويحملني السلام إليه وإلى زميله معالي شيخنا أ.د. عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كانا من قامات الكلية والقسم في أيامها الأولى. وحوّل الشيخ وجهته من الجامع إلى مسجد آخر مجاور له لقربه واعتدال جوه وسهولة الوصول إليه، فصرت أغدو إليه ثمة لأبتهج بلقياه.
جلست إلى شيخنا في مكتبه يوماً، وقد أهديتُ له بعض كتبي في التخصص، فقال لي: (الآن يا شيخ هشام وقد أنهيتَ دراساتك العليا وكتبت ما ينفع الله به الخاصة، فقد آن الأوان أن تكتب فيما ينتفع به العامة من كتبٍ تقرّب لهم أمور اعتقادهم وفقههم في الدين). كانت كلماته نصيحةً أبوية خرجت من قلبٍ حانٍ مشفق على الأمة ممزوجة بتوجيه منهجي متين.
ومضت السنون .. والشيخ في ردهات الكلية وحوله كبار طلبة العلم يقبلون رأسه للسلام عليه وسؤاله عما يشكل عليهم من مسائل، واحدودب الظهر، وثقلت الخطى، والشيخ هو هو في عزمه وهمته في التعليم، وانتقل الشيخ من منزله بحي الرحمانية إلى الحي المقابل، فكأنما والله انطفأت الشمعة التي كانت تضيء الحي بأكمله، وكأني بمصلى الشيخ يسأل عنه وقد أنس به سنين عددا. ولم تنقطع صلتي بشيخنا فقد كنت أتصل عليه بين الحين والآخر لسماع صوته والاطمئنان عليه، وتوالت على شيخنا أمراض وهو صابر محتسب لا يُظهِر للناس شكوى ولا تألماً. ثم انقطع شيخنا عن الكلية واعتذر عن إكمال المسيرة على رأس الثمانين من عمره وقد أتم قرابة نصف قرنٍ من الزمان معلماً وموجهاً وقائداً ملهماً لهذه الكلية العامرة، وصعب على مشايخ القسم أمر اعتذاره، فانطفأت شعلة يستضاء بها في كلية الشريعة وعم الحزن أرجاءها، ثم عمت الجائحة ـ جائحة كورونا ـ ففصلت الأحباب وانقطعت الأسباب إلا حبل الله وقوته، وتراكم على شيخنا من الرهق ما نحتسبه له عند الله تعالى، ولم يعد شيخنا قادراً على استقبال كل من أحب زيارته والسلام عليه إلا القليل القليل، بل ربما لم يقو على استجابة من يهاتفه، إلى أن وافاه الأجل صابراً محتسباً منتصف ذي القعدة عام 1443هـ.
فُجع أهل العلم وطلبته بالخبر، وأُعلن أن الصلاة عليه بجامع البابطين شمال الرياض، توافد العلماء وطلبة العلم من كل حدب وصوب، وما إن حضرت هنالك إلا وكأني أرى تاريخاً بشرياً لكلية الشريعة منذ نشأتها إلى وقتنا الحالي، كلٌ يلتقي مشايخه وأصحاب دفعته مرحباً وبالشيخ معزياً، فاختلطت أفراح بأتراح وامتزج السلام بآلام، والناس يعزي بعضهم بعضاً على فقد الشيخ، وعلى رأسهم معالي مفتي عام المملكة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، ووري جسد شيخنا في مقبرة الشمال. وفقد أهل العلم نوراً يستضاء به وعَلَماً من أعلامها الكبار ملئ حكمةً ورزانةً وأدباً رفيعاً قل نظيره.
رحم الله شيخنا العالم العابد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن محمد السدحان رحمة واسعة وأسبغ عليه وابل مغفرته وشآبيب عفوه، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله على كل حال..
كتبه تلميذه المقصر
هشام بن محمد السعيد
كلية الشريعة بالرياض